دخل ( منير ) ممسكاً فى يده يداً أخرى بيضاء ظهرت بقيتها فى الشقة على هيئة ( مروة توفيق ) .... بعد أن صافح ( فتحى ) بادر بتقديمها اليه :
" مروة صاحبتى , كان بيننا معاد انهاردة و ماكنش ينفع أؤجله "
صافحها ( فتحى ) ثم قادهما مغرقاً اياهما فى عبارات الترحيب حتى غرفة الجلوس ... ظل ( منير ) يحملق بلا اكتراث حقيقى فى كل ما تقع عليه عيناه حتى جلس فى النهاية على كرسيه بجوار الشرفة ... الضوء خافت و الهدوء يخيم على المكان بلا سببب محدد , و ( فتحى ) مستمر على فترات يلقى بعبارات ترحيب كانت تزيد من ثقل الصمت حين يسكت و لا يجد ما يقوله ... الجو العام رتيب للغاية على غير المتوقع من الجميع , بعد قليل جاءت ( سامية ) بخطوات ثابتة محسوبة .. " ازيك يا منير ؟ "
تقدمت نحو ( منير ) و صافتحه و هو لا يزال جالساً على مقعده مبتسماً تلك الابتسامة المفاجأة كعادته حين يرحب به أحدهم .. أخبرها ( فتحى ) ان الجالسة بجوار ( منير ) هى صديقة له , صافتحها بنفس الترحاب و لكن بلا كلمة واحدة .. تركتهما و اتجهت نحو المطبخ لتعود بصينية كبيرة عليها أقداح فارغة و عدة أطباق ممتلئة بالمخبوزات الصغيرة ... صبت الشاى و وضعت مكعبات السكر دون أن تسأل ... لا يزال السكون اللا مبرر يخيم على أربعتهم مهما حاول ( فتحى ) على فترات السؤال عن آخر الأخبار و الأحوال , الجو مرتبك الى حدٍ بعيد .... استأذن فى النهاية و طلب من ( منير ) مصاحبته الى الشرفة و معه قدح الشاى للحديث قليلاً فى الهواء الطلق حتى تنتهى ( سامية ) من اعداد العشاء ... أشعلا سيجارتين ثم غابا سوية فى الشرفة المظلمة عدا من بضعة أضواء كابية لمحال تجارية أمامهما .
*******
بعد نصف ساعة كاملة أنهى ( فتحى ) حديثه مع ( منير ) و غادرا الشرفة على اثر نداء ( سامية ) لهما .. طاولة الطعام صغيرة تكفى أربعة بالضبط .. ( مروة ) تضع طبقين كانت تحملهما معها ثم تجلس على الكرسى المجاور ل ( منير ) .. الجميع فى اماكنه , بدأت أصوات الملاعق تبطش بالأطباق فى عشوائية كانت فى الحقيقة أكثر تنظيماً من السكوت المرتبك الذى عاد مرة أخرى ليسيطر على العقول ... و دون أن تنظر اليه مباشرة فى عينيه باغتت ( سامية ) الجميع بسؤال ل ( منير ) : " لسه بتجيلك كوابيس يا منير ؟ "
رد عليها بنفس الهدوء و هو لا يزال محملقاً فى قطع المكرونة الباقية أمامه فى الطبق : " غير الكابوس اللى أنا فيه !! " ثم شفع اجابته بابتسامة مفاجأة أيضاً حين لاحظ حدة كلماته .... أطرق الجميع فى صمت , حملقت ( مروة ) فى وجهه ثم أشاحت بنظراتها بعيداً , تشاغل ( فتحى ) بتنظيف بنطلونه من قطعة مكرونة سقطت عليه , ( سامية ) هى الوحيدة التى ردت الى ( منير ) ابتسامته بأخرى أكثر هدوءاً , بعد نوبة سعال زائفة قطع ( فتحى ) التوتر الزاحف : " انت شكلك مش مبسوط م الاكل الظاهر !! "
" أبداً ... أنا قصدى عموماً , الموضوع كله بقى زى كابوس ..... طب استنى لما نخلص أكل و هاحكيلك واحد جالى انهاردة الصبح " ثن نظر الى ( مروة ) قائلاً " ماشى يا مروة !! .. اسمعى الكابوس دا " رد منير .
*******
" كنت ماشى انا و واحد صاحبى بليل فى شارع ضيق فيه مدرسة ... الشارع كان متغطى بتلج أبيض كتير ... جمب سور المدرسة الحديد لقينا ييجى تلاتين أربعين قطة مرميين فوق بعض و سايحين فى دمهم .. قطط بيضا و ناعمة و شعرها تقيل , بقع الدم الحمرا لونها فاقع فوق التلج الأبيض .. حوالين كل قطة بقع الدم محدداها عن القطط التانية , وقفنا ساكتين زى ما يكون كل واحد مستنى التانى يبدأ بالكلام .. فجأة سمعنا حركة قطة تحت رجلينا ... من غير ما أفكر جريت و جبت كيس مرمى ف الشارع و حطيت القطة فيه مش عارف ليه !! ... و أول ما دخلتها الكيس سمعت صرخة عالية فزعتنى .. اتنفضت و رميت الكيس من ايدى , خرجت القطة م الكيس بتعرج و صوت صويتها عالى و أنينها يجرح زى ما تكون ست عجوزة بتموت م الألم .. صرخة احتضار , الدم كان بيسيل منها و هيا ماشية بعيد عنا , دققت فى رجليها اللى بتعرج شفت عضم ركبتها باين أدام عينى ... شايف مفصل ركبتها بعينى مفيش عليه حتة لحم .. رجليها مفسوخة من عند الركبة و عماله بتنزف دم و صريخها لسه طالع للسما و شعرها لسه أبيض و نضيف "
سكت ( منير ) لثانيتين طالتا أو قصرتا لكنهما كانت شديدتا الوطأة على الجميع " بس ... و صحيت "
( سامية ) و ( فتحى ) و ( مروة ) فى حالة موت اذا ما اعتبرنا أن للأموات تلك القدرة على تحريك الملاعق بعصبية غير مفهومة ليصنعوا صوت الاصطدام القاتل على أطباق الطعام بهذا الشكل ... بنفس العصبية سألت ( سامية ) فجأة : " ماكنتش بتحب القطط يا منير ؟ "
رد عليها بسرعة : " لأ .. أنا بحب القطط "
عالجته برد كانت تضغط على كل حرف فيه بنبرة أكيدة الى حد بعيد " أيام الكلية كنت لما بتشوف قطة بتصوت ف الشارع كنت بتجرى وراها تضربها فى بطنها "
سكت ( منير ) للحظات ثم رد باستسلام دون أن ينظر اليها او الى أى شخص فى الصالة : " يمكن ... مش بحب القطط فعلاً "
*******
" مع السلامة يا منير , مع السلامة يا مروة .... مستنيك الخميس الجاى ف المكتب ما تنساش " سمع ( فتحى ) تكة انغلاق المصعد و الصوت المميز لنزوله , أغلق باب شقته ثم ارتمى على مقعد خشبى بجوار الباب و تنهد تنهيدة عميقة ... رفع رأسه و نظر الى آخر الممر على يمينه حيث غرفة نومه , وجد نورها مضاءاً و ( سامية ) تجلس على مقعد مسترخية تحملق فى سقف الغرفة فوقها و سيجارة مشتعلة بين أصابعها .... تحاول فهم الكابوس , تتذكر جيداً حيلتها القديمة مع ( منير ) حين يسأل أحدهما الثانى عن آخر كوابيسه ليبدأ فى الحكى مستخدماً رموزاً خاصة لا يعرفها غيرهما تعنى أشياءاً محددة لكليهما ... أشعل ( فتحى ) سيجارة و هو لا يزال محدقاً فى ( سامية ) التى تحدق بدورها فى السقف و لا تراه ....