Saturday, July 08, 2006

(9)

(القسم الثاني)
------------


المقهي مزدحم كعادة كل المقاهي في تلك الآونة من الليالي الصيفية الحارة ، وكعادة كل المقاهي تظل المقهي هي المكان الذي يلجأ اليه من ليس له مكان محدد في وقت محدد ، مثل هذا الذي دلف للمقهي الآن ، ليس بمسن في حقيقة الأمر ، لكن من الواضح أن الدهر أكل عليه وشرب كما يقولون مما أعطاه هذا الطابع المتقدم في العمر ، ومما أعطي ملامحه سمت الستين من العمر ، رغم عدم تجاوزه الخمسين بعد ، ملابسه متسخة من أثر سفرٍ طويل وبالرغم من ملامحه المتسقة إلا أن أمارات الجهد البادية علي وجهه أخفت اتساق ملامحه وتوحي بأنه شحاذ أو ماشابه ، طلب شاياً بلسانٍ مجهد ، أشعل لفافة تبغٍ ملتوية أخرجها من جيب قميصه ، ثم شردت نظراته تماماً لدرجة أنه أفاق ضابطاً نفسه يتحدث بصوتٍ عال وكل رواد المقهي صامتون ينظرون إليه وتحمس البعض والتف حوله ، لم يجد بداً من الصمت فأكمل حديثه " أنا ماكنتش كده ، أنا كنت مدير عام أد الدنيا ، لكن اترفدت بعد ما صدر عليا الحكم ، أنا أصلي لسه خارج من السجن ، والله مانا عارف انا خرجت امتي ، يمكن امبارح ، يمكن أول ، يمكن من شهر أو سنة ، مش فاكر، كل اللي فاكره أني لسه خارج من السجن ، ومراتي ، تصدقوا ، مراتي طلبت الطلاق من المحكمة ، أنا عارفها كويس ، (سامية ) ماكنتش ممكن تعمل كده لو كنت اتسجنت عشان حاجة تانية ، هي عملت كده عشان تنتقم مني لما عرفت أني قتلته"

------------------

فنحي ، انت ماتفرقش حاجة عن منير ، إذا كان هو واطي قراط فأنت واطي اربعة وعشرين قراط ، وإذا كنت كرهته لما راح اتجوز البت الوسخة اللي اسمها (فاطيما) فأنا كرهتك أكتر لما اتجوزتني عشان عارفة انك اتجوزتني عشان تنتقم منه مش أكتر ، وأنا وافقت ساعتها عشان انتقم منه برضه ، بس صدقني يافتحي ، احنا اللتنين أوسخ من منير ألف مرة ...فاهم؟

------------------

عند تذكره هذه النقطة زاغت نظراته ، وبدأ في التفوه بكلامٍ غير مفهوم وظن الجالسون أن روحه سوف تعود إلي بارئها الآن ، وللدقة التي تفرضها علينا أمانة نقل اللحظة يجب أن نقول أن (فتحي) لم يكن من اللذين يسهل استدراجهم إلي الاسترسال في الحديث عن حياته الخاصة ، بل كان دائما كتوماً فيما يختص بمشاعره الخاصة ، كان يعرف دائما متي يكبح مشاعره ومتي يطلق عنانها للسماء ، حتي زملاءه في السجن لم يعرفوا عنه الكثير ، وكل المقريبن اليه كانوا يعلموا جيداً كم يحمل من مشاعر ثلجية لا يسهل استثارتها ابدا ، وعند ادراكه هذه النقطة وثب من مقعده ، فجأة تذكر حقيقته التي غابت عنه خلف اسوار السجن وظلامه الكثيف كأن الظلام تسرب إلي عقله فأخفي عنه تدريجيا ذاته نفسها ، ذاته التي غابت خلف الرداء الازرق ورائحة العرق الممزوجة بالذل الذي ذاقه داخل الغرفات الضيقة الخانقة ، "أنا مش هابقي شاعر بربابة علي اخر الزمن " هكذا قال بصوتٍ جهوري مثلما تعود أن يمارس سلطته علي مرؤوسيه ، ولكن لأن الظرف الان مختلف تماما ، ولأن رواد المقهي اللذين تجمعوا حوله لم يكونوا بمرؤوسيه فقد زادهم هذا حماساً وانطلق بعضهم يتهامس حول هذا الرجل ذو سابقة القتل ، والبعض الاخر قتله الفضول ليعرف " قتلت مين؟" ، وعند هذا السؤال نستطيع أن نقول أن ادراك (فتحي) المفاجيء لحقيقته التي غابت لم يكن ادراكا حقيقيا أو كاملا وكأنه كان ينتظر هذا السؤال بالذات ليعاود الجلوس بانهاكٍ واضح ويعود صوته للانخفاض " قتلت منير ، منير صالح عبد الصمد ، ماحدش هنا يعرف منير أصل منير معروف اكتر هناك ، مافيش بار فيكي يامصر مايعرفش منير ، مافيش غرزة ولا بيت دعارة مايعرفش منير ، مافيش حد في أمن الدولة مايعرفش منير ، أنا بقي اللي قتلت منير ، ايوة ، شجعته عشان يرمي نفسه من فوق ، أول ماجاب سيرة قططه الملعونة ماستحملتش ، افتكرت سامية وقلت في نفسي ان منير لازم يموت دلوقتي ، نط يامنير ...نط

-------------------

كانت (مروة) تعد فنجان القهوة السادس لمنير ، حين دخل عليها منير (المطبخ) أحتضنها من الخلف والتصق بها ، طبع قبلةً طويلة علي رقبتها فابتسمت وهي تلتفت اليه ملتصقةً به أيضا ، "مالك؟لسه ماشبعتش ولا ايه؟" ، لم يرد ، أطفأ نار القهوة ، وأخذها من يدها ، أخذ يفك أزرار فستانها بجنون ، خلع ملابسه سريعاًوانطلق في تقبيلها ، لم يكن هناك غير صوت المطر الخفيف في الخارج وتأوهاتها الخافتة.

------------------

بعد موت منير ، وحين تكلمت مروة مع فاطيما بعد عودتها السريعة من روما ، في جلسةٍ خاصة بينهما ، سألت فاطيما مروة عن معاملة منير الجنسية معها ، كان في الواقع سؤالاً صفيقاً من ناحيتها ، لكن مروة لم تجد غضاضة في أن تقول " منير كان غريب ، كنت باحس اني بنام مع تلات أو اربع رجالة مرة واحدة ، كان بيتعامل مع كل حتة في جسمي علي انه ست كاملة ، كان كأنه بينام مع كل حتة لوحدها ، لما كان بيبوسني كنت باحس اني هايفضل يبوسني لحد ما اموت ، ولما كان بيعضني كنت باحس انه هايكلني ، هايبلعني ، ولما كان بيدخلني كنت باحس انه مش هايخرج ابداً ، ساعات كنت باحبه اوي ، مجنونة بيه ، وساعات كنت باكرهه ، كان غريب" ولاداعي هنا لأن نذكر ارتعاشة فاطيما الواضحة ولا عصبيتها التي زادت وأنها دخنت أثناء كلام مروة مالم تدخنه من سجائر من قبل.

-------------------

بعد الانتهاء من الدفقة الثانية كان منير ومروة مستلقيان فوق تلك الاريكة العريضة في حجرة الجلوس ، ذراعه حول كتفيها ورأسها علي صدره ، "مروة ، انتي هاتعملي ايه لو مت؟" ، " اخص عليك يامنير ليه بتقول كده؟" ، " سيبك بس من كلام الافلام ده ، هاتعملي ايه؟" ، "مش عارفة" ، " انتي تعرفي يعني ايه مرض الاكتئاب يامروة؟ ، "لأ" ، طب تعرفي يعني ايه انتحار؟ ، " منير ، ايه اللي انت بتقوله ده؟ الانتحار حرام " " هه ، واللي احنا بنعمله ده ايه؟ ، تعرفي انا بافكر كل يوم اني ارمي نفسي من البلكونة ، تفتكري الواحد هايحس بايه لو رمي نفسه من بلكونة الدور السابع ، اكيد الهوا هايخبط جامد ف وشه ، وبعدها مش هايحس بحاجة ، ولا تفتكري ان جسمه هايوجعه الاول اول ما يخبط في الارض؟ ، " والله هاسيبك وامشي لو مابطلت الكلام ده" ، "قومي " ، أبعدها عنه بحركةٍ عنيفة ، " لمي حاجتك من هنا وامشي ، ياللا مش عايز اشوفك ، في ستين داهية ، يعني هاتفرقي ايه عن التانيين ، ولا حاجة ، امشي من هنا حالا" ، " لأ يامنير مش ماشية ، مش هاسيبك ، مش هاسيبك تموت نفسك " ، تركها ودخل حجرته وأقفل الباب بقوة.

------------------

لم يكن هناك مايدل علي أن الرجل مجنون ، لذا قفد اكتسب تعاطف الجالسين ، كان من الواضح أنه تعرض لعذابٍ فوق طاقته ، " واللي يعيش يامايشوف" ، هكذا ردد أحد الجالسين بالمقهي ، " يشوف ايه ياحضرة؟ ، انت اصلك ماتعرفش حاجة ، منير ده أخد مني كل حاجة أنا مش ندمان ، لا ..لا ..لا ....، خالص بالعكس ، أنا مرتاح ، لأ ....مش مرتاح ....، سامية ماعدتش بتشوف القطط الميتة خلاص ، انا اللي بقيت كل يوم أصحي من الكابوس ده ، حتي بعد موتك يا منير الكلب مش عارف اخلص من كوابيسك السودة " ، أحضروا له ماء ، أخذوا يحاولون تهدئته عندما انزلقت منه دمعتين رغماً عنه ، " لا حول الله يارب" ، " ماتعملش كده ف نفسك يا استاذ" ، وأشياء من هذا القبيل ، عرض عليه أحدهم بعض الطعام ، فأخذ يأكل بنهم ، طلب لفافة تبغ ، وأرجع رأسه للوراء ، وأغمض عينيه وهو يسحب انفاس اللفافة ، " أنا تايه ، ماعرفش انا فين ، ولا باعمل ايه هنا ، انا بقالي كتير اوي ماشي ، بامشي من اسبوع تقريبا " ، " هو منير ده مين ياباشا؟ " ، قال قائل.

-----------------

" منير ، لازم تعرف انك ماينفعش تكلمني دلوقتي ، مش عايزة اعمل حاجة من ورا فتحي يامنير ، انت عارف اني باهتم بالحاجات دي ، لو سمحت بطل الكلام الفارغ اللي عمال تقولهولي عن الانتحار والموت والكوابيس وسيبني في حالي ، لازم تعرف انك بقيت بالنسبة لي ولا حاجة ، انت ولا حاجة يا منير فاهم؟ ، انا مستعدة انسي كل اللي حصل ، حتي جوازنا اللي كان في السر ممكن انساه لأنه ماكنش جواز اصلا ، كان لعب عيال ، ممكن انسي كل الاهانات اللي انت وجهتهالي انا وعيلتي ، واستغلالك لظروفي ولضعفي ولأفكاري ايامها ، ممكن انسي كل ده يا منير بس ابعد عني ، عايز مني ايه تاني؟ بعد كل اللي حصل اتصلت بيك عشان احاول انتشلك من حياتك اللي ضاعت ومن موت عيالك وهروب مراتك كنت حاسة ناحيتك بشيء من المسئولية بس مش معني ده اني لسه بافكر فيك يا منير ، افهم بقي ، افهم انك ماعدتش زي زمان ، ولا أنا بقيت زي ماكنت ، منير ، ماتحاولش تتصل بيا تاني ، لازم تعرف اني هاستريح اوي لو عرفت انك سافرت لحتة بعيدة ، أو انقطعت اخبارك عني لأي سبب أو حتي مت " ثم وضعت سماعة الهاتف

-----------------

"منير ده واحد ظهر في حياتي فجأة ، أيام الجامعة كانوا بيقولوا عليه شيوعي ، دخل السجن وخرج بطل في عيون كل الناس ، كلهم اتلفوا حواليه ، اتجوز فاطيما ، البنت اللي كنت بحبها من بعيد لبعيد بس ماكنتش اقدر اقولها لأنها كانت غنية اوي وانا كنت فقير اوي ، اتجوزها هو عشان غنية ، استغل مكانة ابوه والبيت اللي ورثه واقنع ابوها انه انسان محترم ، طول عمره وصولي ، اتجوزت أنا سامية عشان انتقم ، وانا عارف انه ماحبش حد في حياته غيرها ، غلطتي الوحيدة اني حبتها ،لكن هي ماقدرتش تنساه ، ماقدرتش ، آه يامنير الكلب ، لو أطول هاموته ألف مرة". وانتفض واقفاً ، رمي بعض القروش علي المنضدة ، وخرج من المقهي جارياً تاركاً ورائه بعض العيون الشاخصة والنظرات المتسائلة.

Posted by Pianist at 3:45 AM 19 comments